محاربة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين

تقديم                                                                                     

تعتبر حرية الصحافة الركيزة الأساسية للنظام الديمقراطي بفضل الدور الذي يلعبه الصحفي في توعية المواطنين وتأمين رقابته على السلط العمومية وإتاحة المعلومة للناخبين بصورة خاصة والفاعلين السياسيين بصورة عامة الأمر الذي من شأنه تعزيز النقاشات بخصوص الشأن العام. وفي هذا السياق جاء في خطة عمل الأمم المتحدة بشأن سلامة الصحفيين ومسألة الإفلات من العقاب أن “انعدام حرية التعبير، وحرية الصحافة بوجه خاص، يحول دون بناء مجتمع يضم مواطنين واعين ونشطين وملتزمين.”

وتجدر الإشارة إلى أن حرية الصحافة ملتصقة أشد الالتصاق بشخص الصحفي ذاته، مما يعني أن الاعتداءات على الصحفيين وعدم سن تشريعات ضامنة للحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للصحفي تؤدي بالضرورة إلى إضعاف حرية الصحافة وتحويلها إلى أداة لضرب مبادئ الحرية والمساواة والكرامة.

في هذا السياق، تعتبر ظاهرة الإفلات من العقاب من أخطر الممارسات التي من شأنها ترهيب الصحفيين ودفعهم إلى عدم القيام بمهامهم طبقا للأخلاقيات الصحفية. وتعرّف هذه الظاهرة بكونها غياب التتبعات القضائية تجاه مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان.ولقد صدرت سنة 2017 عن منظمة المادة 19 دراسة بخصوص التوصية عدد 2/33 الصادرة عن مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة المتعلقة بسلامة الصحفيين.[1] وورد في الدراسة المذكورة أن مسألة محاربة الإفلات من العقاب تحتاج إلى مخطط ثلاثي الأبعاد متمثل في : الوقاية، الحماية والإحالة على القضاء.

وسنقوم خلال هذه الدراسة في مرحلة أولى بإبراز جملة الإجراءات والتدابير الواجب اتخاذها من طرف الدول والفاعلين في مجال حرية التعبير لمحاربة الإفلات من العقاب عن الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين قبل التطرّق لنقائص التشريع التونسي في هذا المجال.

الجزء الأول: الإجراءات والتدابير المتعيّن اتخاذها بهدف محاربة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين

  1. الوقاية

لا تقل التدابير الوقائية أهمية عن الإجراءات المتعلقة بإحالة مرتكبي الانتهاكات تجاه الصحفيين على القضاء. ولذلك يتعيّن وضع إجراءات وقائية لمعالجة الأسباب الدافعة لارتكاب أعمال عنف ضد الصحفيين، ولقد وردت جلّها في نصوص ووثائق دولية صادرة عن منظمات دولية مثل مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة[2] أو منظمة اليونسكو،[3] وأيضا المنظمات غير الحكومية كمنظمة المادة 19.[4]

وتتمثل الإجراءات الوقائية بالأساس في:

  • توفير إطار قانوني ملائم للصحفيين كي يمارسوا مهامهم بكل حرية واستقلالية. ويكون ذلك عبر التصدي للأحكام القانونية التضييقية لحرية التعبير التي يمكن أن توجد في التشريعات المتعلقة بالصحافة أو الأنترنات أو الإرهاب،
  • عدم التنصت بصورة غير قانونية على الاتصالات التي يجريها الصحفيون واحترام حقوقهم في التعبير وفي الحياة الخاصة،
  • عدم سنّ تشريعات من شأنها منع الصحفيين من التشفير لحماية حقهم في السرية وعدم التعرض إليهم أو عرقلة وصولهم لتكنولوجيات الحماية الرقمية،
  • التشجيع على إرساء منظومة تأجير تكفل كرامة الصحفي وتحميه من التوظيف بواسطة القوانين الجبائية أو التشريع المتعلق بالتمويل العمومي،
  • تنظيم الدولة والفاعلين في مجال حرية التعبير دورات تدريبية لفائدة القضاة والأمنيين والعسكريين والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني بخصوص الالتزامات القانونية والتعهدات الدولية في مجال حماية الصحفيين.

 

  1. الحماية

تشكّل التدابير الحمائية وسائل ضرورية لمحاربة الإفلات من العقاب المترتب عن الانتهاكات الواقعة على الصحفيين. وتتمثل بالأساس في:

  • إحداث وحدة أمنية داخل وزارة الداخلية مختصة بالبحث في جرائم العنف ضد الصحفيين حتى يتمكّن المدونون والصحفيون في وضعية خطرة من النفاذ إليها بسهولة والتمتع بتدابير حمائية ملموسة،
  • إحداث آليات رصد لتوثيق الاعتداءات وجمع المعلومات الضرورية التي من شأنها أن تمكّن من إعداد دورات تدريبية موجهة خصيصا للفئات المتسببة بأكبر قدر في تفشي ظاهرة الإفلات من العقاب.

 

  1. الإحالة على القضاء

ترتبط نجاعة هذه المرحلة بمدى اتخاذ تدابير وقائية وحمائية تهدف إلى حماية الصحفيين من الانتهاكات وتتبع مرتكبيها.

  • التحقيق: ينبغي على الدول القيام بتحريات محايدة، سريعة، معمقة ومستقلة بهدف تحديد المسؤوليات وتكييف أنواع الانتهاكات من تهديدات واعتداءات على الصحفيين،
  • المحاكمة: يتعيّن على الدول محاكمة مرتكبي الاعتداءات ضدّ الصحفيين وأيضا كل من خطّط وأصدر الأوامر لارتكابها وتطبيق العقوبات الكفيلة بردعهم.

 

الجزء الثاني: نقائص التشريع التونسي بخصوص محاربة الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحافيين

يتضمّن التشريع التونسي عدة أحكام قانونية من شأنها محاربة الإفلات من العقاب بصورة عامة. ويمكن أن نذكر في هذا السياق الأحكام الدستورية كالفصل 23 الذي يمنع سقوط عقوبة الإعدام بالتقادم عبر الزمن أو الفصول 102 وما بعد المكرّسة لاستقلالية القضاء والضمانات المتعلقة بالقضاة.

كما نجد جملة من الأحكام المتعلقة بحماية الصحفيين صلب الفصول 11 وما بعد من المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر كمنع عرقلتهم عن أداء مهامهم وتجريم الاعتداءات الواقعة عليهم بمناسبة أدائهم لعملهم.

إلا أن التشريع التونسي لا يزال يشكو بعض النقائص.

من جهة أولى، أصدرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) عدة نصوص بخصوص حماية الصحفيين ومحاربة الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة ضدهم. في هذا الإطار صدرت سنة 1997 عن منظمة اليونسكو التوصية عدد 29 بعنوان “إدانة الاعتداءات على الصحفيين” تطلب من خلالها الدول بالقيام بتنقيح تشريعاتهم الوطنية باتجاه تكريس مبدأ عدم تقادم الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين.

وبالرجوع للقانون التونسي، نلاحظ أن الاعتداءات المرتكبة ضد الصحفيين من شأنها أن تسقط بالتقادم حيث نص الفصل 5 من مجلة الإجراءات الجزائية على سقوط الدعوى العمومية بعد مرور فترة زمنية معينة تتراوح من سنة إلى 10 سنوات بحسب نوع الجريمة. وبالتالي فإنه يمكن لمرتكبي الجرائم ضد الصحفيين تجنّب العقوبات بواسطة التقادم المسقط، الأمر الذي يعتبر متعارضا مع المعايير الدولية.

من جهة ثانية، اعتبرت منظمة اليونسكو في التوصية عدد 29 لسنة 1997 أنه ينبغي عدم إحالة الصحفيين بمناسبة أدائهم لمهامهم أمام القضاء العسكري أي أن المقالات الصحفية التي تتناول مسائل تهم القوات العسكرية لا يمكن أن تكون سببا لإحالة الصحفيين أمام القضاء العسكري، بل يجب احترام الإجراءات المتبعة أمام القضاء العدلي.

ولقد نصت مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية صلب الفقرة 7 من الفصل 5 على إمكانية إحالة غير العسكريين (كالصحفيين) أمام القضاء العسكري حيث جاء فيها ” تختص المحاكم العسكرية في: (…)7- جرائم الحق العام المرتكبة ضد العسكريين أثناء مباشرتهم للخدمة أو بمناسبتها.”

كما يعتبر الفصل 91 من نفس المجلة متعارضا مع المعايير الدولية ذلك أنه بالإمكان توظيفه لمحاكمة الصحفيين والمدوّنين التّونسيّين أمام القضاء العسكري.[5]

وعليه فإنه ينبغي تنقيح هذين الفصلين حتى لا تقع إحالة الصحفيين من أجل أفعال قاموا بها أثناء أداء مهامهم أو بمناسبتها أمام القضاء العسكري.

أخيرا ينبغي أيضا توفير حماية للعاملين بالمؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة وحتى الجمعياتية من خلال توفير إطار تشريعي حمائي للصحفي عبر تفادي تضارب النصوص وغموضها بخصوص القيود الواردة على حرية الصحافة. كما يجب أن تضع التشريعات الآليات الكفيلة بالقضاء على التشغيل الهش الذي يمثّل اعتداء على حق الصحفي في العمل في ظروف لائقة.

كما يتعيّن اتخاذ جملة من التدابير التي تهدف إلى مساندة الصحفيين ضحايا العنف من خلال تمتيعهم وجوبا بالإعانة العدلية وإبرام اتفاقيات شراكة بين النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين والهياكل الممثلة للقضاء والمحاماة. أما في إطار توفير المساعدات ذات الطابع المالي، يمكن إنشاء صندوق من أجل توفير جرايات من أجل كفالة عائلات الصحفيين الذين يصبحون عاجزين عن مواصلة ممارسة مهنة الصحافة جراء الاعتداءات الواقعة عليهم أثناء أداء مهامهم أو بمناسبتها.

 

[1]ARTILCE 19, Pour la mise en œuvre de la Résolution 33/2 du Conseil des Droits de l’Homme des Nations Unies sur la sécurité des journalistes, 2017.

https://www.article19.org/wp-content/uploads/2018/02/safety_of_journalists_WEB_23.10.pdf

[2] Résolution 33/2 du Conseil des Droits de l’Homme des Nations Unies sur la sécurité des journalistes en date du 29 septembre 2016.

[3] Voir à titre d’exemple : UNESCO, Liberté de la presse : sécurité des journalistes et impunité, 2008 ; Déclaration de Medellin de 2007 ; Déclaration de Belgrade de 2004.

[4] Pour la mise en œuvre de la Résolution 33/2 du Conseil des Droits de l’Homme des Nations Unies sur la sécurité des journalistes, Etude précitée.

[5]منظمة المادة 19، المحاكمات العسكرية تشكّل تهديدا خطيرا لحريّة التّعبير في تونس، 2016.

https://www.article19.org/ar/resources/tunisia-military-justice-threatens-freedom-of-expression/